ملحق لدراسة الحداثة في الفن والفلسفة عموماً وعند سعاده خصوصاً

د. حيدر حاج إسماعيل

يصف فاسيليكي كولوكوتروني Vassiliki Kolocotroni الحداثة، في مقدمة كتاب: الحداثة: مجموعة مصادر ووثائق Modernism: An Anthology of Sources and ********s، بقوله، إنها تشمل عدداً كبيراً من النظريات المختلفة والمتدابرة والممارسات. وأن جوهر حافز الحداثة كان يَمْثُلُ في روح التجريب.[1] ويرى أن الكلام عن هذه الروح يتطابق مع تعريف كليمنت غرينبرغ Clement Greenberg للحداثة، في الفن، عندما قال بأن الروح النقدية عن الفيلسوف كانط Kant هي التي دفعت إلى التجريب الحداثيّ، والذي تجسد أخيراً في المذهب الفنيّ التعبيري الأميركاني المجرد American Abstract Expressionism.[2]
أما زمان الحداثة فهو محدَّد، تقليدياً، بالحقبة الممتدة ما بين العام 1910 والعام 1930.[3]

الحداثة في الفن
فعلى صعيد الفن، كان للحداثة ظواهر، نذكر من أهمها المذهب المستقبلي Futurism الذي وضع بيانه ومبادئه الشاعر الإيطالي فيليبو طوماسو مارينيتي Filippo Tommaso Marinetti ونشر في جريدة لوفيغارو Le Figaro في باريس في عام 1909. في هذا المانيفستو (البيان)، نقرأ أفكاراً تدعو إلى الحركية والسرعة والجسارة والحرب وهدم القديم. وفي ذلك قوله في المبدأ الأول: "لقد عقدنا العزم على حبّ الخطر، واعتياد بذل الطاقة وعدم الخوف". ويضيف قائلاً في المبدأ الثاني: "الشجاعة، والجسارة، والثورة سوف تكون العناصر الجوهرية لشعرنا".

وفي المبدأ السابع نقرأه، يقول: "لا جمال إلا في الصراع". وفي المبدأ الحادي عشر، نقرأ: "وستكون أغانينا عن الجماهير الواسعة التي حرّكها العمل، والسعادة، والسير في المظاهرات...".[4]

ثم هناك التكعيبية cubismفي الرسم التشكيلي. ومن أشهر من صاغ مبادئها غيلوم آبولينير Guillaume Apollinaire. وهو يقول في هذه الظاهرة، مما يقول، ما يلي: "لقد آن الأوان لنكون أسياداً. ولا يكفي الإرادة الخيرة لتحقيق ذلك بالتأكيد".[5] ويضيف: "لذا، فنحن نتقدم في اتجاه فنّ جديد بالكلّية، فنّ ستكون نسبته إلى الرسم التشكيلي السابق، كنسبة الموسيقي للأدب. فهذا الفن الجديد سيكون فناً نقياً، كما هي الموسيقى أدبٌ مصفّى". ثم يضرب مثلاً عن بيكاسّو Picasso التكعيبيّ المشهور، فيقول: "إن رجلاً مثل بيكاسّو يدرس الشيء كما يفعل الطبيب الجرّاح الذي يشرِّح جثّة".[6]

ومن بين مدارس الفن التشكيلي التي تنسب إلى الحداثة، نذكر، أيضاً، التعبيرية Expressionism، ومن فرسانها فاسيلي كاندنِسْكي Wassily Kandinsky الروسيّ الأصل (1866-1944). وقد كتب في عام 1912 عن "مشكلة الشكل" "The Problem of Form". ومما قال، زمانئذٍ: "لذا، يدرك المرء إدراكاً أساسيّاً أن السرّ العظيم المهم ليس في القيمة الجديدة، وإنما في الروح التي تكشف عن ذاتها في تلك القيمة، وأيضاً، في الحرية اللازمة لذلك الكشف".

وبالإضافة إلى ما تقدم، يمكننا الإشارة إلى الدادائية Dadaism، والدوّاميّة أو مذهب الحركة الدائرية Vorticism، والبنائيّة Constructivism، والسورياليّة Surrealism، والفوضويّة Anarchism، وحركات أخرى.

ولن يمكننا، في حدود دراستنا الحالية أن نخوّض في شرح أفكار ونظريات هذه الحركات جميعها. لكننا سنكتفي بأن نختار واحداً منها على سبيل مسك الختام لكلامنا عن الحداثة في الفن. وقد اخترنا السوريالية. فما هو هذا المذهب؟ لعلّنا لا نكون بعيدين عن الصواب، إذا قلنا إن أندريه بريتون André Breton (1896-1966) كان رسول السوريالية، وهو الذي وضع بيانها (مانيفستو) الشهير في عام 1924. وكانت الفكرة الأساسية التي قامت عليها السوريالية ماثلة في الدور الذي يلعبه اللاوعي في الفن. وواضح أن هذه الفكرة مستمدة من علم النفس الفرويدي.

يقول بريتون في بيانه، وبعد مهاجمته لحكم المنطق: "أؤمن أن المستقبل سيوفّر حلاًّ لهاتين الحالتين: "الحلم والواقع، واللتين تبدوان متناقضتين، وسيكون الحلّ نوعاً من الواقعية المطلقة، أي سوريالية، إذا صحّ القول". ويتابع قائلاً: "إن من يعترض على حقنا في استعمال لفظة السوريالية، بالمعنى الخاص الذي نفهمها به، هو إنسان غير مخلص أبداً، ذلك، لأنه لم يكن لهذه اللفظة استعمال قبلنا. لذا فإنني أحدِّد معناها مرّةً وإلى الأبد، على النحو التالي: "السورياليّة هي آلية نفسيّة في حالتها الصافية، وبها يُعبِّر المرء، لفظياً، بواسطة الكلمة المكتوبة، أو بأية طريقة أخرى _ عن عملية التفكير الواقعية... في غياب أية رقابة للعقل، وفي حالة تحرّر من أي همٍّ جمالي (استطيقي) أو أخلاقي".[7]

محصَّل ما تقدم هو أن الحداثة في الميدان الفني عبّرت عنها حركات ومدارس وظاهرات مختلفة طلبت الجديد والتجديد، بممارسة الحرية، وبدون قيود.



الحداثة في الفلسفة

مع أن الحداثة في الفن كانت قبل الحداثة في الفلسفة، لا بدَّ من عرضٍ لما حصل في الفلسفة أيضاً. يرى بيبين Robert Pippin أن مشكلة الحداثة في الفلسفة تختص بما يسمى "الحرية الذاتيّة" autonomy أو، هي تقرير المصير أو الحكم الذاتي.[8]

ويعتبر بيبين Pippin كانط Kant أول فيلسوف حداثيّ.[9] فقد أكّد هذا الفيلسوف الألماني على مبدأ "الحرية الذاتية" autonomy في نقده للعقل وبخاصة في كتابه: نقد العقل العملي Critique of Practical Reason. فالعقل، عنده، لا يكتشف مركز الإنسان في الطبيعة ولا يخدم غاية طبيعية أو عاطفة، إنه "يُشَرِّع للطبيعة". فهو لا يكتشف الحياة الصالحة، بل يضع قوانينها. فما على الإنسان إلا الاتكال على نفسه.

أما لووِث Karl Löwith الذي استعرض المسار الفكري من فولتير Voltaire إلى ماركس Marx فقد رأى أن الفكرة المركزية، في الحداثة، كانت فكرة التقدم، وأن هذه الفكرة إن هي إلا نسخة علمانية للنظرة المسيحية للزمان. وهذا معناه عدم وجود مبرر أو شرعنة للحداثة.[10]

ويرد بيبين Pippin فكرة "الحديث" إلى التقاليد المسيحية الأوروبية الغربية، فهي من نتاجها، كما يقول، مع أن أصلها الحرفي روماني، وسابق للقرنين السادس عشر والسابع عشر حينما صار لها مدلول مشروع ثوري. وهناك شبه إجماع على أن الكلمة وجدت في أواخر القرن الخامس أو أوائل القرن السادس، وهي مشتقّة من الفعل modo الذي يفيد "حديثاً" أو "في هذا الزمن".[11]

وما يزال النقاش، بَلْهَ الجدل، قائماً وحامياً بين الدارسين والمفكرين حول صحة وصف ما جرى، منذ عصر التنوير Enlightenment إلى زماننا الحاضر بأنه كان مشروعَ حداثةٍ مختلفاً جذرياً عما كان. فهناك، من يرى أن ما حصل ليس نظرة جديدة إلى الحياة كما يدعي الحداثيون، وإنما هو تكرار خادع للذات، وما الاختلاف سوى كون هذا الزمان الحداثي هو زمان حماقة ومخاطر. وقد عرفت المشكلة القائمة بين المتجادلين بمشكلة الشرعية أي شرعنة صحة وجود الحداثة.[12]

وعودة إلى كانط Kant وعلاقته بروسو Rousseau يمكننا أن نشير إلى أن روسّو Rousseau كان بمثابة المعلم والموحي لكانط Kant، فمنه تعرّف كانط على ميل العقل للجدل وللأزمة وللنقد الذاتي. ويعتقد فيلكيه Velkley بأولوية العملي في فلسفة كانط Kant.[13]

والنقد الأساسي لعصر التنوير (عصر العقل) الذي وضعه كانط Kant وقبله روسّو Rousseau يختص بمفهوم العقل الذرائعي instrumental reason.[14]

وكانت الفكرة الأولى عند كليهما، هي أن قيادة العقل الإرشادية لا يمكن أن تفوَّض، للعاطفة غير المهذّبة وغير المنظّمة، من قبل عقد مشرِّع.[15]

ويمكن القول إن حجّة كانط للتوكيد على أولوية العقل العملي تجد أساسها في عجز العقل النظري في مجال معرفة الموجودات بذاتها. فصار من حق العقل النظري-الأخلاقي الولوج إلى عالم تلك الموجودات، بلا عدوان.

وما لفت كانط Kant من أفكار روسّو Rousseau فكرة أن العقل الذرائعي متناقض ذاتياً. ففي حين ظن الناس أن ذلك العقل سيحقق استقلال الإنسان وكفايته، كان الحاصل معاكساً تماماً، ألا وهو استعباد الإنسان لما صنعت يداه.

وقد تناول كانط Kant هذه الفكرة وطوّرها إلى حدّ القول بأن العقل الإنساني، كله، ينطوي على تناقض ذاتي.[16]



الحداثة والعلمنة

أكثر ما تتجلّى علاقة الحداثة بالعلمنة عند فاتيمو Gianni Vattimo. فهو في هذا المجال، يعرِّف الحداثة بقوله، "إنها الحقبة الزمنية التي تميّزت بهجران الرؤية المقدسة للوجود، والتوكيد على القيمة الدنيوية بدلاً عنها، أي، العلمنة Secularization". أما الفكرة الأساسية في مفهوم العلمنة، وعلى المستوى النظري، فهي فكرة الإيمان بالتقدم (أو أيديولوجيا التقدم) والتي تستمد أو تأخذ صورتها من استمرار الرؤية المسيحية-اليهودية للتاريخ.[17]

فنـزعة الحداثة تتجلّى في تنكِّب المسؤولية عن العالم من قبل دعاتها. فالطبيعة بدت لهؤلاء مجموعة من القوانين يقدر العقل الإنساني أن يكشف الغطاء عنها، ومخزوناً من الموارد الطبيعية للاستعمال، ومناظر للتقدير الفنّي. بكلمة واحدة: الإنسان هو سيد الطبيعة والحاصل هو فقدان العالم صفته السابقة المتمثلّة في اعتباره كتاباً، محتواه سطّرته إرادة الله.[18]

وفي كنف الحداثة نشأت ظاهرات: الفرد والمجتمع، والواقعية والمثالية، والتكنوقراطية والإنسانية، والحرية السلبية والحرية الإيجابية، والمنفعة والحق، والتجريبية، والعقلية، والليبرالية والجمعية، والرأسمالية والإشتراكية، والديمقراطية والتوتاليتارية (النظام الكلّي).[19]

ويرى هيبرماس Habermas أن الحوادث التاريخية التي أسست مبدأ الذاتية كانت: حركة الإصلاح (اللوثرية)، وعصر التنوير، والثورة الفرنسية. أما مفهوم الذاتيّة فيشمل، فيما يشمل، الفردية، وحق النقد، والحرية المسؤولة autonomy، والفلسفة المثالية (هيجل).[20]



سعاده وحزبه القومي والحداثة

نتقدم الآن إلى الكلام على سعاده، ونسبة فكره الماثل في فلسفة حزب إلى الحداثة. أول ما يلفتنا، ونحن ندرس فكرة سعاده، هو خاصته التجديديّة، فسعاده طلب الجديد في الحياة المجتمعية ووضع صيغاً للحياة الجديدة عرفت باسم المبادئ أو العقيدة القومية الاجتماعية.[21] وهو يقول ذلك في خطابه في أول حزيران من عام 1935، عندما يقول: "منذ الساعة التي أخذت فيها عقيدتها القومية الاجتماعية تجمع بين الأفكار والعواطف وتلمّ شمل قوات الشباب المعرّضة للتفرقة بين عوامل الفوضى القومية والسياسية المتشرة في طول بيئتنا وعرضها وتكون من هذا الجمع وهذا اللّم نظاماً جديداً ذا أساليب جديدة يستمد حياته من القومية الجديدة هو نظام الحزب السوري القومي الاجماعي _ منذ تلك الساعة انبثق الفجر من الليل وخرجت الحركة من الجمود وانطلقت من وراء الفوضى قوة النظام، وأصبحنا أمة بعد أن كنا قطعاناً بشرية...".[22]

وفي محاضرته الثالثة في عام 1948، وتحديداً في شرحه في تلك المحاضرة لرسالته إلى المحامي الأستاذ حميد فرنجية الذي كان أحد المحامين الذين تقدّموا للدفاع عنه في الدعوى الأولى في المحكمة المختلطة، يقول، وكان بصدد شرح ما دفعه إلى إنشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي: "ويمكنني أن أعيّن موقفي بالنسبة إلى موقف المتزعمين السياسيين من قومي بأن موقفي أخذ يتجه رويداً حتى ثبت على الأساس القومي بينما موقفهم كان ولم يزلْ على الأساس السياسي، والسياسة من أجل السياسة لا يمكن أن تكون عملاً قومياً".[23]

معنى ذلك أن الجديد، الذي أراده سعاده، لم يكن مضافاً لذاته، أي جديداً للجديد (كما كان الفن للفن والتغيير للتغيير عموماً عند بعض الحداثيين في العالمين الأوروبي والأميركي) بل كان جديده مضافاً لمضاف إليه. أما المضاف إليه فهو أمته أو مجتمعه. لذا، رفض أن تكون سياسة حزبه مقتلعة، أو معلّقة في الهواء، بل أرادها أن تكون منسوبة لخير الأمة وتقدمها.

وفي موضع آخر، يؤكد على أن جديده للأمة كلها، يقول: "العقليّة الأخلاقية الجديدة التي تؤسسها لحياتنا بمبادئنا هي أثمن ما يقدمه الحزب السوري القومي الاجتماعي للأمة، لمقاصدها ولأعمالها ولا تجاهها".[24]

كل ذلك كان على صعيد المجتمع.

أما على صعيد الدولة، فكان جديد سعاده واضحاً لا لبس فيه، وذلك في مبدأ "فصل الدين عن الدولة"، ومبدأ "منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين"، ومبدأ "إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب"، ومبدأ "إلغاء الإقطاع، وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج، وإنصاف العمل، وصيانة مصلحة الأمة والدولة"، وأخيراً، المبدأ الدفاعي الذي ينصّ على "إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن".[25]

واضح أن مبادئ الدولة المشار إليها تشمل، فيما تشمل، فكرة علمانية الدولة، وهي فكرة حداثيّة.

وكان سعاده يعتبر تجديده شاملاً، فهو يقول، وهو بصدد شرح غاية حزبه، ما يلي: "إن غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي هي قضيّة شاملة تتناول الحياة القومية من أساسها، ومن جميع وجوهها. إنها غاية تشمل جميع قضايا المجتمع القومي، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والروحية والمناقبية وأغراض الحياة الكبرى...".[26]

وفي محاضرته في مؤتمر المدرسين القوميين الاجتماعيين الذي انعقد عام 1948، يتكلم سعاده، وعلى مستوى التربية والتثقيف، عن "الصراع الفاصل بين نفسيّة فتيّة تنظر إلى الحياة والكون والفن نظرة جديدة، ونفسيّات شائخة اعتادت النظر إلى شؤون الحياة والكون ضمن الحدود المغلقة التي تكوّنتْ فيها".[27]

وفي خطابه بمناسبة الأول من آذار (يوم مولده) الذي ألقاه في عام 1949، يؤكد سعاده على فكرة الصراع، يقول: "لم لو نكن حركة صراع لما كنا حركة على الإطلاق، لا تكون الحياة بلا صراع".[28]

ويضيف، في نفس الخطاب، قائلاً: "نشأنا حركة صراع وسرنا في الصراع ولا نزال نسير في الصراع وإن الصراع لم ينتهِ".[29]

والصراع، عند سعاده، هو بين جديده الذي وصفناه والقديم من المبادئ والتقاليد والمؤسسات الطائفية والطبقية والعنصرية والأنانية، وما شابه.

فكرتا الحرية والاستقلالية اللتان يعبر عنهما لفظ أوتونومي autonomy الذي مرّ معنا، عندما كنا في سبيل الكلام على الحداثة في الفلسفة وفي الفن، واللتان تجمعهما فكرة حق تقرير المصير، نلفاهما في المبدأين الأساسيين الثاني والثالث. فالمبدأ الأساسي الثاني ينصّ على أن "القضية السورية قضية قومية قائمة بنفسها ومستقلّة كل الاستقلال عن أية قضيّة أخرى". والمبدأ الأساسي الثالث يفيد بأن "القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري".[30]

خلاصة القول، هي أن فكر سعاده، الذي نشأ في بيئة الحداثة الزمنية والثقافيّة ما بين عامي 1910 و1930، والذي كان نهضة وصفها سعاده بأنها خروج الأمة من تفسخ الأمة وتضارب الأمة وشك الأمة إلى وضوح الأمة وجلاء الأمة وثقة الأمة ويقين الأمة وإيمان الأمة وعمل الأمة بإرادة للأمة واضحة وعزيمة للأمة صادقة، نقول، إن هذا الفكر حداثيُّ من حيث أنه شامل لحاجات مجتمعنا في هذا العصر، عصر القوميات والدول الحديثة. وإن ما نراه جارياً في فلسطين وفي العراق، وفي لبنان من ظهورٍ للنـزاعات الدينية _ المذهبيّة والعنصرية والكيانية سوى البرهان السلبي، ومن الواقع، على ضرورة الاستنفار لتحقيق تلك الحاجات النهضوية الحداثيّة. ولات ساعة ندم!




الحداثة في الأدب عموماً والشعر بخاصة عند سعاده

بعد كلامنا على الحداثة على صعيد الفلسفة القومية الاجتماعية ومبادئها، نتقدم الآن إلى شرح الحداثة التي طلبها سعاده في مجال الأدب عموماً والشعر بخاصة. وفي هذه الناحية، لا نجد بين أيدينا أفضل من كتابه: الصراع الفكري في الأدب السوري، الذي كان عبارة عن مقالات نشرت في جريدة: الزوبعة، في بوانس آيرس، في 15 آب من عام 1942، التي كان يصدرها.[31] أما المناسبة، كما شرحها سعاده نفسه، فهي التعليقات الثلاثة التي نشرتها مجلة "العصبة" في شباط من عام 1935، حول ديوان "الأحلام" للشاعر شفيق معلوف، التي دبَّجها يراع كل من أمين الريحاني، والعم يوسف نعمان معلوف، وصاحب الديوان شفيق معلوف ذاته. وقد وجد سعاده في تلك التعليقات تخبطاً فكرياً لا بدَّ من نقده وتصويبه.[32] وقد شمل نقد سعاده أيضاً رأي الدكتور محمد حسين هيكل، أحد كبار أدباء مصر، الذي كان قد نشر في مجلة "الهلال" مقالاً في عددها الذي صدر في حزيران من عام 1933.[33] كما أشار إلى رأي الشاعر خليل مطران المنشور، في نفس المجلة، في تشرين الثاني من السنة ذاتها.[34] وحلّل ونقض وجهة نظر ميخائيل نعيمه الواردة في أحد خطبه في بيروت في عام 1932، بوصفها "صوفيّة هدّامة".[35]

بعد مناقشته والنقود، يشرح سعاده نظريته في الأدب والشعر وتجديدهما، فيقول، مما يقول، ما يلي: "إن الأدب كله، من نثرٍ ونظمٍ، من حيث هو صناعة يقصد منها إبراز الفكر والشعور بأكثر ما يكون من الدقة وأسمى ما يكون من الجمال، لا يمكنه أن يحدث تجديداً من تلقاء نفسه. فالأدب ليس الفكر عينه وليس الشعور بالذات. ولذلك أقول إن التجديد في الأدب مسبَّب لا سبب – هو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر والشعور – في الحياة وفي النظرة إلى الحياة. هو نتيجة حصول ثورة روحية، مادية، اجتماعية، سياسية تغيّر حياة شعبٍ بأسره وأوضاع حياته، وتفتح آفاقاً جديدة للفكر وطرائقه وللشعور ومناحيه".[36]

واضح مما تقدم أن تصوّر سعاده للحداثة كان تصوّراً فلسفياً – ثقافياً، وليس تصوّراً فردياً كما كان أساس نظريات الحداثة الأوروبية الغربية والأميركانية خاصة. فالحداثة، بمعنى التجديد، جوهرها، تغيير الحياة الاجتماعية، فكراً وشعوراً، بواسطة مبادئ جديدة تؤلف فلسفة جديدة أو نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن.

وتجدر الإشارة إلى أن سعاده كان من المعتقدين، وبقوةٍ، بضرورة حصول التغيير. وما كان قصده من إنشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي إلا لتأسيس الحداثة في داخله، وبقدوة قادته، وأعضائه، ومؤسساته وتعميمها في المجتمع.



الهوامش

[1] Kolocostroni, Vassiliki. Jane Goldman and Olga Taxidou. Modernism: An Anthology of Sourves and ********s, The University of Chicago Press, Chicago 1998, Introduction: p. xvii.
[2] Ibid. p xviii.
[3] Ibid. p. xviii.
[4] Ibid. p. 250-251.وتجدر الإشارة إلى أن مارينيتي (1876-1944)، كان قومياً وصار من أتباع فاشيّة موسوليني.
[5] Ibid. p. 262.
[6] Ibid. p. 264.
وتجدر الإشارة إلى أن أول معرض لمجموعة رسامين تكعيبيين، حصل في عام 1911 في Indépendants في الغرفة 41. Ibid. p. 267.
[7] Ibid. p. 308-309.
[8] Pippin, Robert B. Modernism as a Philosophical Problem: On the Dissatisfaction of European High Culture, Blackwell, Oxford UK, 1991, p. 3.
[9] Ibid. p. 12.
[10] Löwith, K. Meaning in History, University of Chicago Press, Chicago, 1970, p. 2.
[11] Ibid. p. 17.
[12] Ibid. p. 22.
[13] Velkley, Richard L. Freedom and the End of Reason: On the Moral Foundation of Kant's Critical Philosophy, The University of Chicago Press, Chicago, 1989, Introduction p. 2-3.
[14] Ibid. p. 2.
[15] Ibid. p 2-3.
[16] Ibid. p 12.
[17] Vattimo, Gianni. The End of Modernity: Nihilism and Hermeneutics in Post Modern Culture, trans. Jon R. Snyder, The Johns Hopkins University Press, Baltimore, 1985, p. 101.
[18] Connolly, William E. Political Theory and Modernity, Blackwell, Oxford (UK), 1988, p. 2.
[19] Ibid. p. 4.
[20] Harbermas, Jürgen. The Philosophy Discourse of Modernity, trans. Fredrick Lawrenve, The MIT Press, Cambridge, Massachusetts, 1987, 1st lecture, p. 17.
[21] أنطون سعاده. مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي وغايته.
[22] أنطون سعادة. سلسلة النظام الجديد، 2، المحاضرات العشر، 1948، المحاضرة الثانية، ص 28.
[23] المرجع السابق، ص 49.
[24] المرجع السابق، ص 178.
[25] أنطون سعاده. مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي وغايته.
[26] أنطون سعاده. المحاضرات العشر، ص 176-177.
[27] انطون سعاده. كتاب شروح في العقيدة، آذار، 1958، ص 151.
[28] أنطون سعاده. سعاده في أول آذار، 1956، ص 99.
[29] المرجع السابق، ص 100.
[30] أنطون سعاده. مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي وغايته، ص 17-24.
[31] أنطون سعاده. سلسلة النظام الجديد، الصراع الفكري في الأدب السوري،.
[32] المرجع السابق، ص 7-10.
[33] المرجع السابق، ص 15.
[34] المرجع السابق، ص 16-17.
[35] المرجع السابق، ص 20-21.
[36] المرجع السابق، ص 27.

شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية: http://www.ssnp.info/thenews/daily/M...l_22-01-06.htm